مقالات الرأي
ردع الحوثي: الخيار الاستراتيجي نحو الإستقرار في الشرق الأوسط

بقلم : البراق شادي عبد السلام
” الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية لأنها العامل الأكثر ديمومة” بهذه العبارات حدد الأمريكي نيكولاس سبيكمان أستاذ العلاقات الدولية و أحد مؤسسي المدرسة الواقعية الكلاسيكية في السياسة الخارجية الأمريكية في كتابه الشهير”جغرافية السلام” الدور المحوري للجغرافيا في صناعة القرار العالمي حيث خلصت أبحاثه إلى أن فهم الجغرافيا و أهميتها يساعد بشكل كبير على فهم الديناميات التي تؤثر على الإستقرار و السلام في عالم يعج بالمخاطر و الازمات .
و الهجوم الأمريكي على أهداف عسكرية تابعة لميليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن لردع القوة التدميرية للميليشيا لا يمكن فهمها إلا من خلال سعي الإدارة الأمريكية لتحريك الجغرافيا من أجل بناء الإستقرار و ترسيخ السلام بوضع قواعد إشتباك إقليمية جديدة في الشرق الأوسط تستهدف أساسا تقليم أظافر إيران الإقليمية و تطهير خطوط الإتصال البحرية في مضيق باب المندب من سيطرة التنظيمات الإرهابية و الجماعات المسلحة الغير الحكومية كميليشيا الحوثي الإيرانية التي هددت بشكل مباشر الملاحة الدولية و العمليات اللوجستيكية المرتبطة بها طوال عقود بشكل أثر على التجارة الدولية و الإقتصاد العالمي فحسب معطيات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية لسنة 2023 تعتبر باب المندب نقطة اختناق مهمة للنفط والغاز الطبيعي ، حيث يمثل 12% من تجارة النفط المنقولة بحرًا و 8% من تجارة الغاز الطبيعي المسال (LNG) في النصف الأول من عام 2023 ،حيث أن متوسط تدفقات تجارة النفط عبر مضيق باب المندب إنخفض إلى 4 ملايين برميل يوميًا حتى غشت 2024، مقارنةً بـ 8.7 مليون برميل يوميًا في عام 2023 بأكمله حيث فضلت شركات النقل العالمية سلوك طرق أطول وأكثر تكلفة حول أطراف أفريقيا حيث إنتقلت مدة النقل البحري من مضيق هرمز إلى مركز تجارة البترول أمستردام-روتردام-أنتويرب في أوروبا عبر البحر الأحمر من 19 يوما إلى 34 يوما عبر طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا .
و بشكل عام توجد ثماني معابر عالمية لها أهمية بالغة في خطوط الملاحة الدولية و أمنها يؤثر بشكل مباشر على الإقتصاد العالمي و إستقرار الأسواق المالية الدولية أو ما يسمى في الجغرافيا السياسية بنقاط الإختناق الإستراتيجية نصف هذه المعابر الثمانية العالمية منتشرة خارج منطقة الشرق الأوسط ، معبر واحد في كل من أوروبا و إفريقيا (مضيق جبل طارق)، وأفريقيا (رأس الرجاء الصالح)، وشرق آسيا (مضيق ملقا)، والأمريكتين (قناة بنما) ، فيتركز النصف الآخر من هذه المعابر الحيوية في منطقة صغيرة نسبيًا حيث يلتقي جنوب غرب آسيا بأوروبا وأفريقيا: مضيق البوسفور في تركيا ، وقناة السويس في مصر ، ومضيق باب المندب في البحر الأحمر ، ومضيق هرمز في الخليج العربي. كما تُعد هذه المنطقة أهم مصدر للطاقة اللازمة لإستدامة النمو الاقتصادي العالمي، من زاوية التحليل الجيوسياسي والجيو إقتصادي، تعتبر هذه المعابر البحرية من أهم النقاط الحساسة في تمرير النفط والغاز المسال من مراكز الإنتاج إلى مواقع الاستهلاك .
يمثل مضيق باب المندب نقطة جيوسياسية إستراتيجية ذات أهمية عسكرية وحيوية وإقتصادية كبيرة لمختلف المحاور الدولية و القوى الإقليمية بعبوره حوالي 25,000 قطعة بحرية سنويًا، أي بمعدل 75 قطعة يوميًا، يُعتبر المضيق ممرًا حيويًا للتجارة العالمية، لا سيما فيما يتعلق بنقل النفط والغاز. عسكريًا، يُعد المضيق نقطة مراقبة حيوية للقوى البحرية الكبرى، حيث يُمكنها التحكم في مسارات الملاحة ومنع التهديدات المحتملة ، يتداخل ذلك مع النزاعات الإقليمية و المخاطر المهددة للإستقرار ، حيث تسعى مختلف القوى إلى تعزيز نفوذها وضمان أمن خطوط الإمداد يتحلى ذلك في وجود أكثر من 19 قاعدة في المضيق ،مما زيد من تعقيد الديناميات الجيو سياسية في المنطقة ، حيث يُعتبر المضيق محورًا للتجارة الدولية، إذ يؤثر على حركة السلع الأساسية بين القارات و أي اضطرابات في الملاحة قد تؤدي إلى آثار سلبية على الأمن الغذائي والطاقة للدول المتلقية، مما يبرز الحاجة إلى استقرار هذا الممر. من الناحية الاقتصادية، تساهم الحركة الكثيفة للقطع البحرية عبر المضيق في تعزيز الاقتصاديات المحلية والإقليمية، حيث يجسد مضيق باب المندب تقاطعًا حيويًا للأبعاد العسكرية، الحيوية، والاقتصادية، مما يجعله محورًا رئيسيًا في الديناميات الجيوسياسية العالمية.
العملية العسكرية الأمريكية حسب تقارير صحفية بدأت بإطلاق الطائرات المهاجمة من حاملة الطائرات الأمريكية هاري إس ترومان في البحر الأحمر وقد استخدمت طائرات إف/إيه-18 سوبر هورنت للتغطية الجوية ولمهمة الهجوم الفعلية ترافقها قاذفات قنابل موجهة لتغطية جميع مهام الحرب الإلكترونية والتشويش و بالتالي فهذه العملية هي تجسيد عملي لإستراتيجية “مفهوم الولوج العملياتي المشترك JOAC” الذي وضعته القيادة العسكرية الأمريكية بهدف ضمان القدرة على ولوج القوات الأميركية أي موقع أو مسرح نزاع، سواء على الأرض أو في الجو أو في الفضاء أو البحر أو في مجال الإنترنت، و ضمان استمرارية وجودها فيه في مواجهة إستراتيجية”منع الوصول/منع دخول المنطقة(A2/AD)” الذي تحاول إيران و أدواتها تنفيذها في مضيق باب المندب منذ عقود ، حيث يمكن تعريف هذه الإستراتيجية العسكرية كمجموعة من القدرات المتداخلة عبر مجالات متعددة مثل الهواء والأرض و البحر والحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والحروب السيبيرانية والفضاء ، بهدف وحيد هو فرض أقصى قدر من الاستنزاف على قدرة القتال الحربية للامريكان و حلفاءهم في البحر الأحمر و بالتالي فقد وضعت القوات الأمريكية من خلال هجومها الأخير الإطار العملي لتطوير تصوّر شمولي لمجابهة التحديات التي قد تنجم عن تهديدات منع الولوج والمناطق المحرمة A2/AD الإيرانية التي كان إيران عبر الحرس الثوري و أدواته الإقليمية تحاول توسيع مجالها في إلى مضيق جبل طارق أو عبر سفن التجسس الإيرانية المرابطة في المضيق كبهشاد و سافيز اللتان كانتا تقومان بالتجسس و جمع المعطيات لصالح الحوثيين بنقل المعلومات و الإحداثيات و عمليات التتبع للسفن التجارية لتنفيذ عمليات القرصنة و إستهداف و تعطيل الملاحة في المضيق .
عمليا رد جماعة أنصار الله المنتظر لن يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة في إطار قواعد الإشتباك الإقليمية التقليدية المتوافق عليها بين جميع الأطراف فالحوثي في اليمن لا يمتلك القرار السيادي الوطني لتحريك ترسانته من الصواريخ الباليستيكية و المسيرات الإستراتيجية لإستهداف العمق الإسرائيلي أو القواعد الأمريكية في الخليج إلا بموافقة من غرفة العمليات المركزية للحرس الثوري في طهران ، كما أن الإسناد العملياتي من باقي أدوات إيران في المنطقة هو أمر شبه مستحيل خاصة و أن الموقف الإيراني في الشرق الاوسط يعيش أصعب أيامه منذ الحرب الإيرانية – العراقية في ثمانينيات القرن الماضي بسقوط النظام البعثي السوري و هزيمة حماس العسكرية في قطاع غزة و تحييد حسن نصر الله و كامل القيادة العسكرية العليا لحزب الله ، لذا تصعيد الموقف العسكري في مضيق باب المندب الذي يشكل خاصرة الملاحة الدولية وضع لا تتفق عليه أغلب القوى الإقليمية الفاعلة و تحويل البحر الأحمر إلى أحد مسارح المواجهة بين إيران و أمريكا و إسرائيل أمر يقلق الخاسر الاكبر في الموضوع جمهورية مصر العربية التي تتكبد قناة السويس خسائر مليارية من تعطل و عرقلة و تناقص الملاحة التجارية في القناة .
في الجانب المظلم من القصة هناك جانب أخلاقي يستوجب تحرك المجتمع الدولي فميليشيا الحوثي و بأوامر مباشرة و تحت إشراف عبد الملك الحوثي ترتكب في المناطق الخاضعة لسيطرتها إنتهاكات جسيمة فظيعة لحقوق الإنسان على شكل إعدامات ميدانية بدون محاكمة وإختطافات و عمليات قرصنة و إحتجاز قسري لمئات الآلاف من اليمنين خارج أي مراقبة للمنظومة الأممية لحقوق الإنسان حيث أن الفريق الحقوقي اليمني خلال اللقاء المنعقد بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان بمدينة جنيف على هامش الدورة الـ53 لمجلس حقوق الإنسان أكد أن منظمات المجتمع المدني اليمينة رصدت ووثقت نحو 238 طفلاً جرى تجنيدهم بعد الإتفاقيات التي وقّعتها ميليشيات الحوثي مع الأمم المتحدة سنة 2018 كما أن الفريق الحقوقي اليمني أكد أن ما تقوم به الميليشيات الحوثية من زراعة الألغام والعبوات المفخخة بشكل ألعاب يصعب التعرف عليها وبأشكال أحجار وتشكيلات مموهة ليكون معظم ضحاياها من الأطفال و الأكيد أن الشعب اليمني الشقيق الذي يعاني جراء هذه الممارسات الخطيرة ،هو الضحية الحقيقي في هذه الأزمة بإختطاف الدولة اليمنية و وضع مقدراتها في خدمة المشروع الإقليمي لنظام الولي الفقيه و تحويل الشعب اليمني الأصيل إلى رهينة في يد ميليشيا إرهابية بدون وازع أخلاقي أو إنساني يشكل وجودها في أحد أهم خطوط التماس الجيوسياسي العالمي خطرا على الأمن الإقليمي و العالمي .
العملية العسكرية الأمريكية ضد الحوثي هي جزء من نهج شامل في مواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط و ردع ميليشيا الحوثي يتطلب وضع إستراتيجيات شاملة ومتعددة الأبعاد و وقيادة رؤية شاملة تضمن الأمن والسلام لكل شعوب المنطقة و بناء إطار أمني إقليمي مستدام ،فالأمن الإقليمي في مضيق باب المندب لا يمكن تحقيقه من خلال الإجراءات العسكرية وحدها، بل يحتاج إلى تكامل مختلف الجهود للسياسية و الإقتصادية والإجتماعية. تنطلق بتقديم الدعم الإنساني والاقتصادي للشعب اليمني الشقيق كخطوة أساسية نحو تعزيز الاستقرار في اليمن تحت قيادة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا و التي تسيطر على حوالي 60 بالمئة من المساحة الجغرافية لليمن .