تعليق على عبارة “” فجور مسطري ” وردت في قرار قضائي + وثيقة

مصطفى المنوزي
رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي
صحيح أن من حق القاضي أن يرتب جزاء عدم قبول الطعن لكونه قدم مرتين من نفس المتقاضي ومن نفس المحامي ، وبغض النظر عن مدى ثبوت السند القانوني أو التعليل واقعيا وقانونيا ؛ فإن اعتبار الطعن مرتين “” فجورا مسطريا “” وكذا التساهل ؛ في استخدامه أو شرعنته ، في وصف تصرفات المتقاضي أو دفاعه يمكن أن يكون محل جدل، خاصة إذا كان هذا الوصف يحمل طابعًا قدحيًا أو غير موضوعي. ففي النظام القضائي، الذي كان عليه إجماع وطني لكي يتم إصلاحه دستوريا ومؤسستيا لكي ينعم المواطنون بسلطة قضائية مستقلة ونزيهة وحيادية ، من المهم أن تحافظ المحكمة على لغة مهنية وموضوعية في قراراتها، تجنبًا لأي انطباع بالتحيز أو الانحياز.
و إذا كان مصطلح “فجور” يُفهم على أنه اتهام بالسلوك غير الأخلاقي أو سوء النية، فإن استخدامه يجب أن يكون مبررًا بدلائل قوية وواضحة، وأن يكون مرتبطًا بسلوكيات محددة تتنافى مع أخلاقيات المهنة أو الإجراءات القانونية السليمة. وإلا، فإن استخدام مثل هذه الألفاظ قد يُنظر إليه على أنه تجاوز من قبل القضاء، خاصة إذا لم يكن هناك أساس كافٍ لهذا الوصف.
وفي مثل هذه الحالات، يمكن القول إن تفعيل مدونة الأخلاقيات القضائية يكون ضروريًا ليس فقط لضمان سلوكيات المتقاضيين، بل أيضًا لضمان أن تكون لغة القرارات القضائية محترمة وموضوعية، وتحافظ على هيبة القضاء ونزاهته. إذا كان الوصف “فجور” غير مبرر أو مبالغ فيه، فقد يكون من المناسب مراجعة هذا التعبير لضمان العدالة والإنصاف للجميع ، خاصة وأن الأحكام تصدر بإسم جلالة الملك وتطبيقا للقانون ؛ اللهم إذا لم تصنف مدونة الأخلاقيات القضائية ضمن القانون الملزم ماديا ومعنويا ، والتي تقتضي وجوبا ، في روح مقتضياتها الصريحة ، أن تكون صياغة ولغة القرارات القضائية دقيقة ومهنية، وتجنب الأوصاف التي قد تُفهم على أنها قدحية دون مبرر قوي. فبالرجوع على سبيل المثال ، لا الحصر إلى مقتضيات المادتين 21 و 11 والفقرة الخامسة من المادة الثامنة ، وعلى الخصوص هذه الأخيرة التي تنص بالحرف على : “” يمتنع القاضي عن القيام بأي فعل يسيء إلى حياده وسمعة السلطة القضائية ككل ؛ كإبداء ملاحظات غير لائقة للأطراف أو دفاعهم أو الشهود “” ؛ نجد أن هذه المقتضيات وكذلك روح المدونة وضمنعا على الخصوص المقدمة / الديباجة ، تجعل من القاضي والقاضية فوق كل اعتبار أو تصنيف سواء من حيث النزاهة والكفاءة وحسن النية ولكن تحت طائلة رقابة القانون وأخلاقيات المهنة ، وهذه المساحة من الحرية والحماية والحصانة المؤطرة بالضوابط القانون والأخلاقية ، هي إمتياز مشروط بضمان وتحصين تعزيز الثقة في النظام القضائي فوق الشبهات .
ألا يعلم الناس جميعا أن كلمة “فجور” في اللغة العربية تحمل دلالات سلبية، وتُستخدم عادةً لوصف السلوك المنحرف أو الفاسد أو الخارج عن الأخلاق والقوانين. فإذا بحثنا عن مرادفات كلمة “فجور” في اللغة العربية فإنه وجب اعتماد السياق الذي تستخدم فيه، فقد تشمل المرادفات الشائعة: فساد و في السياقات التي تشير إلى الانحراف عن السلوك القويم ، هذا الإانحراف الذي يتحول في سياقات مختلفة إلى سلوك يتمادى مع الأفعال غير المشروعة ثم تعني في سياق آخر إساءة و تستخدم للإشارة إلى الأفعال أو التصرفات السيئة والمسيئة ؛ غير أن تمثلاتنا في البيئة أالسياق الدينيين ، يفسر الفجور معصية أو خطيئة أو ذنب وهو ما يشير إلى فعل يتعارض مع القيم الدينية ، ويقتضي ترتيب الجزاء والعقاب . لذلك تختلف دلالات هذه المرادفات باختلاف السياق، لكن جميعها تشير إلى التصرفات التي تتجاوز الحدود الأخلاقية أو القانونية. لكن يبقى نعت الفجور أقوى لأنه في السياق القضائي يستعمل إصطلاحا وليس لغة فقط ، من هنا فعندما تُستخدم هذه الكلمة لوصف تصرفات أحد الأطراف (مثل المتقاضي أو دفاعه)، فإن التفاعل كان منفعلا ، وعلى القاضي ألا يحكم وهو غاضب ، وإن كانت تعني بالنسبة للقاضي أن هذا الطرف قد تصرف بسوء نية أو أساء استخدام الإجراءات القانونية بشكل متعمد، فإنه من حيث المبدأ، القاضي يجب أن يتسم بالحياد والاحترام عند التعامل مع جميع الأطراف في القضية، سواء كانوا محامين أو أطراف دعوى. ولذلك، فإن استخدام مصطلحات مثل “فجور مسطري” قد يُعتبر غير لائق، ويجب أن يكون القاضي دقيقاً في اختيار لغته وخاصة اامصطلحات ، ليظل محترماً ومهذباً في تعامله مع الإجراءات القانونية. لسنا هنا بصدد التجريخ والمحاسبة ولكن بصدد التنبيه إلى أخلاقيات التواصل بإعتبار أن الأحكام ليست فقط عنوانا الحقيقة ” القضائية ” ، وإنما الأحكام رسالة تربوية مبنية على مناهج وبيداغوجيا ، والحيثيات والتعليلات بطبيعتها نقدية ، لكن ليس كل نقد وجيها ولائقا ؛ ذلك أنه في بعض الأنظمة القضائية، قد يكون للقاضي الحق في انتقاد أو إبداء ملاحظات بشأن تقديم الطعون أو المستندات بطريقة غير قانونية أو غير صحيحة، لكن يجب أن يتم ذلك باستخدام لغة قانونية محترمة ومعقولة، بعيداً عن الألفاظ التي قد تكون جارحة أو مسيئة.
إذن، من الأفضل أن يبقى القاضي بعيداً عن استخدام عبارات قد تُعتبر مهينة أو غير مهنية، حتى وإن كان يهدف إلى الإشارة إلى ممارسات غير قانونية أو غير لائقة. وإلا يُعتبر تصرفه أو رد فعله خروجًا عن الأخلاقيات المهنية أو القانونية . فكيف نستسيغ ونقبل عبارات ، ربما حررها المستشار المقرر المكلف في الملف ، وصادق عليها بقية المستشارين خلال التداول ، دون أن ينتبهوا ودون قصد إلى حمولة المصطلح ؛ ومن هنا وجب التساؤل حول أهمية تلاوة التقرير وعن جدوى وضرورة تدوين الرأي المخالف ، للرجوع إليه عند الإقتضاء ، وذلك عند الحاجة إلى إثارة المسؤولية ؛ خاصة وأن كلمة “فجور” تعبر عن سلوك سلبي يتنافى مع الأخلاقيات والقوانين، وفي بعض السياق القضائي قد تُستخدم لوصف الإساءة المتعمدة للإجراءات القانونية. ومع ذلك، يجب أن يكون استخدام هذه الكلمة مبررًا بدلائل قوية، لأنها تحمل طابعًا قدحيًا وقد تؤثر على سمعة الشخص أو الطرف الذي يتم توصيفه بهذا الوصف ، كما ترهن المصداقية العمومية في منحى خطير يتعارض وإرادة تحصين الأمن القضائي وتحقيق المفهوم الجديد للسلطة إقترانا مع المفهوم الجديد للعدل الذي يعتبر بأن كل وصم حيث لا يجوز عقاب المذنب مرتين ، وبالتالي فليس كل تكرار في نفس الشيء فجورا .
* تعمدنا نشر القرار رفقته مع حذف اسماء هيئة البت .