نقض تقديس القبيلة لأجل ضمير جماعي ضد الإفلات من العقاب

مصطفى المنوزي
منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية
في زمن تتسيد فيه المنظومة الرخوة، حيث تتراجع المعايير لصالح الولاءات، وتتفكك الحدود بين الفعل والمسؤولية، يغدو التبرير بديلاً عن المحاسبة، وتصير القرابة – بكل أشكالها – ذريعة لإسقاط الجزاء. والقرابة هنا لا تعني فقط النسب العائلي، بل تمتد إلى القرابات السياسية، الأيديولوجية، النضالية، الهوياتية، وكل ما يجعل الذات تُحابي من يشبهها، وتُعفيه من النقد، فقط لأنه “منّا”.
من يُعفي أقاربه من النقد، لا يمارس مجرد تساهل أخلاقي، بل يُساهم فعليًا في شرعنة الإفلات من العقاب، وتكفير فلسفة الجزاء. وهذا أخطر من التواطؤ، لأنه يُحوّل الانتماء إلى سلطة رمزية تعفي من الحساب، وتُحصن من المساءلة. هذا ما يجعل من كل فضاء جمعي عرضة لتسلل منطق العصبية الناعمة، التي تبرر القمع إذا صدر من “الداخل”، وتستنكره فقط حين يصدر من “الخصم”.
لقد تعوّدنا في مجتمعاتنا على التعامل مع العدالة بوصفها انتقائية: نُطالب بها حين نُظلم، ونتغاضى عنها حين نظلم. نُدين الإفلات من العقاب حين يرتكبه خصومنا، ونصمت عليه حين يصدر عن “أبناء القبيلة”. هذه المفارقة تُنتج سرديات مشروخة، مفرغة من بعدها القيمي، مُختطفة من ضميرها التاريخي. والتاريخ السياسي العربي مثقل بأمثلة تسييس الذاكرة: من طمس جرائم الفصائل في الحروب الأهلية بدعوى “مقاومة العدو”، إلى تحويل ضحايا التعذيب في فترات معينة إلى “شهداء” مقدّسين لا يجوز مساءلتهم حين يصبحون جلادين. بل نجد في أكثر من بلد من بلداننا، أن السجون نفسها أعادت تدوير نزلائها القدامى كمُشرفين عليها لاحقًا، دون مراجعة ولا تفكيك لمسار القوة الرمزية التي منحتهم الحصانة الجديدة.
في حالات أخرى، تحولت الانتماءات العقائدية أو الإثنية إلى مسوغات لفرملة العدالة، كما حدث في بعض تجارب العدالة الانتقالية التي وُجهت فيها الاتهامات بأنها “تنتقي المتهمين” بناء على الهويات لا على الأفعال. وهذا يعكس كيف تُبنى في الوعي الجماعي ما يمكن تسميته بـ”الولاءات المعفية”، وهي بنى ذهنية تشترط الولاء قبل الحقيقة، وتحول الجماعة إلى مرجعية أخلاقية مغلقة، لا تقبل النقد من داخلها ولا من خارجها.
هذه الولاءات لا تتشكل صدفة، بل تُزرع عبر خطاب ثقافي مستمر، تُغذيه المؤسسات الدينية والإعلامية والسياسية.فالخطاب الديني حين يربط الولاء للمؤمنين بواجب التستر على عوراتهم، يخلق قابلية نفسية للمحاباة. والإعلام حين يصنع من بعض الشخصيات “أيقونات” بلا ظلال، يهيئ الرأي العام لقبول معايير مزدوجة. أما السياسة، فحين تُقايض العدالة بالاستقرار، تفرغ المحاسبة من معناها، وتحوّلها إلى أداة انتقائية بيد المنتصر.
في ظل هذا السياق، تصبح المحاسبة فعلاً تحرريًا، وتغدو الذاكرة ساحة صراع رمزي بين من يريد تسييجها لصالح سردية الضحية المطلقة، ومن يريد تحريرها لصالح سردية الحقيقة المركبة. إن السؤال الجوهري الذي علينا أن نعيد طرحه هو: متى نُبلور، تشاركيًا، استراتيجية نقدية وتوقّعية لمناهضة الإفلات من العقاب؟
لن يُجدي مجرد التنظير الأخلاقي أو الاكتفاء بالمطالبات الحقوقية المعزولة. نحن بحاجة إلى تفعيل عدة مستويات في آن: إصلاح قانوني يضمن المساواة في المساءلة، تربية نقدية تُعلّم الأجيال كيف تُسائل القربى قبل الخصومة، وحركات ضغط مجتمعي تشتغل على اختراق “الهويات المغلقة” من داخلها، لا من خارجها فقط.
وفي هذا السياق يمكن الاستئناس بعدد من المداخل النظرية في هذا المسار: فوكو نبه إلى العلاقة البنيوية بين السلطة والمعرفة، وكيف أن من يملك السردية يملك الحق في العقاب أو الإعفاء. ريكور من جهته ألح على ضرورة وجود “عدالة سردية” تتيح لكل طرف أن يُعيد قول روايته ولكن في ظل شرط الحقيقة المشتركة. محمد بهضوض اقترح علينا أن نُؤسس حقوق الإنسان على أخلاق العناية والمشاركة، بما يجعل من المحاسبة فعل رعاية للذاكرة لا انتقامًا منها. أما هابرماس، فدافع عن الفضاء العمومي كأداة لتداول عقلاني يُقاوم التلاعب الرمزي ويُحرر الفعل من قبضة الامتثال.
لكن وحده التفكير النقدي التوقعي، بما يملكه من أدوات استباقية، يستطيع مساءلة سرديات الحصانة من جهة، واستشراف مآلات الإفلات من جهة أخرى. فمن لا يُسائل، لا يحصّن المجتمع من التكرار. ومن لا يُجرّئ على النقد، يترك الباب مفتوحًا أمام إعادة إنتاج الظلم تحت أقنعة جديدة.
لقد آن الأوان لتأسيس ميثاق ضمير عمومي، يتجاوز الاصطفافات، ويكرّس الحق في الحقيقة، والمساواة في الجزاء، ويعيد الاعتبار للعدالة كشرط ضروري للمصالحة والكرامة المشتركة. فلنخرج من صمت العادة، ولنقل بصوت واضح: لا قرابة تُعفي من الحساب. لا ذاكرة تُسوّغ الإفلات. ولا قضية تسمو فوق النقد ، ولو كان مصدر صندوق النقد أو مراجع النقض .