الرئيسيةبالمؤنثثقافات وفنون

نعيمة المشرقي: “سيدة القلب” ببصمة فنية وإنسانية عابرة للأجيال

النجومية بالنسبة لها وهم لا يعنيها ، عرفت كيف تصنع شخصية مزدوجة بين جماهيرية واسعة لدى أجيال المشاهد المغربي

من “عرس الدم” إلى “خريف التفاح”، قوس ذهبي زاخر بالعطاء رسمته الفنانة الراحلة نعيمة المشرقي بعينين تكتسيان لمعانا خاصا كلما حدقا في كاميرا الفن السابع.

أكثر من أربعة عقود من عطاء بلا ضجيج واكب محطات فارقة في تاريخ السينما المغربية.

ذلك أن نعيمة المشرقي، التي يكرمها مهرجان مراكش الدولي للفيلم في دورته ال 21، عرفت كيف تصنع شخصية مزدوجة بين جماهيرية واسعة لدى أجيال المشاهد المغربي على شاشة التلفزيون، وأداء سينمائي أصيل متفرد بقواعد اللغة السينمائية وباختيارات نوعية تعكس ثقافة فنية رفيعة وحسا عاليا للتكيف مع خصوصية الشكل التعبيري، على الركح، أو في التلفزيون أو على الشاشة الكبرى.

هي كاريزما القوة الهادئة، والنظرة المتقدة والصوت المتهدج، ومهارة في تقطيع العبارة بأنفاس تنقل للمشاهد أدق وأصدق المشاعر، باقتصاد في الحركة.

ورغم أنها سليلة تكوين مسرحي مكين في الستينيات والسبعينيات رفقة المعلم الطيب الصديقي، وفي إطار فرق مسرحية شهيرة أمثال فرقة المعمورة وفرقة الإذاعة الوطنية، فإن المشرقي اهتدت دائما الى طريقة لتغيير الجلد، أداء وتعبيرا، أمام كاميرا السينما.

في السينما، لم تحصل نعيمة المشرقي إلا نادرا على بطولة أولى في قائمة تجاوزت عشرة أفلام، لكنها بصمت من أي موقع على حضور وازن في ذاكرة السينيفيليين الذين يحفظون لها شريطا ذهنيا لامعا تتجاور فيه محطات من قبيل “عرس الدم” لسهيل بن بركة (1977)، “أيام شهرزاد الجميلة” لمصطفى الدرقاوي (1982)، “باديس” (1989)، “البحث عن زوج امرأتي” (1993) لمحمد عبد الرحمان التازي (1989)، “وبعد” لمحمد إسماعيل (2002)، “كيليكيس..دوار البوم” لعز العربي العلوي لمحارزي (2018) وصولا الى “خريف التفاح” (2020) لمحمد مفتكر.

أفضل ممثلة دور ثاني في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة عن دورها في “البحث عن زوج امرأتي( وأفضل ممثلة في مهرجان مالمو للسينما العربية عن دورها في “خريف التفاح” لحظتا اعتراف لا تستوفيان مساحة العطاء الذي قدمته نعيمة المشرقي، والذي تجاوز استوديوهات التصوير ومنصات العرض ليجسد لدى سفيرة النوايا الحسنة لليونيسيف التزاما موصولا بالانخراط في مبادرات التطوع والمواطنة والمنفعة العامة.

“عطاء وتواضع وابداع” هكذا يطيب للمخرج عز العرب العلوي المحارزي أن يلخص القيم التي جسدتها الراحلة في ممارستها الفنية والاجتماعية على حد سواء.

كان متحرجا وهو يعرض عليها دورا في “كيليكيس..دوار البوم” وجده صغيرا بالمقارنة مع تاريخها الفني الحافل، لكن ترحيبها كان فوريا، بمجرد الاطلاع على موضوع العمل الذي يتناول صفحات من ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. لا يعني لها شيئا أن الدور لا يتعدى ثلاثة أيام تصوير ومشاهد قليلة.

حتى التعويض المالي تعففت عن طرحه.

يتذكر كيف كانت تزرع الابتسامة تحت كل الإكراهات، وتشيع روحانية إيجابية بقلب أم وتعرض خدماتها لحل مشاكل خارجة عن نطاق مهمتها.

في خريف عمرها الفني الطويل، يستغرب عز العرب للرهبة التي كانت تستبد بها قبل المثول أمام الكاميرا، رهبة لا تنفصل عن حس احترافي نادر وإيمان بأن النجاح فعل جماعي.

النجومية بالنسبة لها وهم لا يعنيها.

“ما نواجهه حين نتعامل مع ممثلين معتادين على المسرح والتلفزيون هو تحدي التفاعل مع خصوصية كاميرا السينما. السينما تحتاج الى هدوء وذكاء، حين يتعلق الأمر بأفلام المؤلف”.

كانت، حسب العلوي المحارزي، من القلائل الذين فهموا هذا الرهان بإبهار في النظرة والحركة الموزونة والتفاعل مع شركائها في المشهد. تصر دائما على اقتراح خيارات مختلفة لأداء الدور.

صوت المشرقي يتغير جذريا في السينما بحساسية قصوى لمجسات الميكروفون التي ترصد حتى أنفاس الممثل.

تذهب بصوتها نحو طبقة معينة تضفي حضورا متميزا على مستوى التلقي. تستخدم النظرة وتعابير الوجه أكثر من الحركات والإيماءات.

يستحضرها المخرج محمد مفتكر باسم “سيدة القلب”.

تعيده الى ذكريات حضورها الطاغي على الشاشة المغربية بالأبيض والأسود، غير أنها كانت تتشح بباقة من الألوان تبعث من سخائها في الأداء وغمرة المشاعر التي تشيعها، والتي جعلتها في الذاكرة الجمعية مرجعا للحب والدفء والألوان..

الكل يمر عبر القلب بالنسبة لنعيمة.

لم تكابر وهي في ذروة مشوارها حين عبرت للمخرج عن رغبتها في العمل معه، بعد مشاهدتها لفيلمه الطويل الثاني “جوق العميين”.

“داخل فضاء التصوير، لم أكن بصدد إدارة ممثلة، بل كنت بصدد الافتتان بهالة من العظمة، دائما بذكرى الأبيض والأسود التي سكنت مخيلتي طفلا.

في كل إطار، كل حركة، كل حوار، كانت المشرقي تفرز تلك اللوحة من الألوان التي تفيض على الفضاء لتقيم في كل مشهد من الفيلم”، يضيف مفتكر. كانت حاضرة حتى في غيابها…شأن الممثلين الكبار.

بقلم نزار الفراوي  و م ع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى