الرئيسيةمقالات الرأي

كمال هشومي يكتب ..حين يتحول الهجوم إلى شرعية: بنكيران بين الشيطنة والتمدد الرمزي

خطاب بنكيران شعبوي؟ نعم بل متخلف وماضوي. لكنه شعبوي ناجع، لأنه يستحضر الإيمان الشعبي، ويُوظّف الدين كرافعة تبريرية، ويقدّم نفسه كواحد من الناس، لا كمتعالي عليهم

كمال هشومي 

في خضمّ واقع اجتماعي متأزم، يُثقل كاهل المواطن المغربي بالارتفاع المتواصل للأسعار، وتفاقم معدلات البطالة، وتدهور القدرة الشرائية، إلى جانب تفشي أنماط سلوكية دخيلة تمسّ بقيم الأصالة المغربية والأخلاق الجماعية المشتركة، نجد الفضاء العمومي يشهد انفصالًا مقلقًا بين أولويات الناس ومواضيع النقاش العام.

ففي الوقت الذي ينتظر فيه المواطن من نخبته السياسية والاقتصادية والإعلامية خطابًا مسؤولًا يُعبر عن معاناته، وينقل انشغالاته، ويقترح بدائل حقيقية، ينشغل الخطاب العام بتتبع تصريحات جزئية، وردود أفعال ظرفية، وسجالات عبثية، في مشهد يغلب عليه طابع التهكم والتبخيس والتشويش.

وإن كان من الطبيعي أن تعرف الساحة العمومية جدلًا سياسيًا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، فإن ما يلفت الانتباه ويدعو إلى التوقف هو ذلك الاستهداف المكثف، الممنهج والمبالغ فيه، لشخصيات سياسية بعينها، حتى وإن كانت مثار جدل أو محط انتقادات موضوعية، وحتى وان كانت عادية ومسخوط عليها من طرف المواطن ومسارها قد ولى كعبد الإله ابن كيران، أو كحزب العدالة والتنمية. هذا التركيز غير المتوازن لا يمكن فهمه إلا من زاوية الخوف الكامن من تكرار سيناريوهات ماضية، حيث فشلت محاولات الإقصاء في الحد من تأثير الرجل أو الحزب، بل كانت سببًا في تعزيز حضورهما لدى فئات واسعة من المغاربة.

ولدينا من الوقائع ما يدعم هذا المنطق. ألم يتم في سنوات سابقة استهداف حزب العدالة والتنمية بنفس “سلاحه الأخلاقي”، من خلال حملة شعواء شهدت تنظيم مسيرة “ولد زروال” الشهيرة، وتم تسويق ملفات مثيرة كقضية “العاشقين في البحر”، أو ملفات الفساد في الجماعات المحلية من اعضاء هذا الحزب، أو نشر صور بعض عضوات الحزب خارج الحدود بدون حجاب من اجل فضح ثنائية الخطاب، بل وحتى ملف تعدد الزوجات في الخفاء؟ ومع ذلك، تصدّر الحزب الانتخابات التشريعية لسنة 2016 للمرة الثانية بقيادة بنكيران، رغم كل ذلك الضغط.

ولولا طغيان هذا الشخص المفرط وتوهمه ب”قيادة” الدولة بدل الحكومة في التجربة الثانية ونباهة بعض الأحزاب وفي مقدمتها زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي ادريس لشكر من خلال ما سمي بالبلوكاج و”يقضة” الدولة، لقاد الحكومة الثانية بعد الدستور ولربما يقودنا كذلك اليوم.

إن الإصرار على تقديم هذه الشخصية كـ”خطر على استقرار المواطن والوطن”، أو التشكيك في ولائه وولاء دائرته المقربة، بل وربطه أحيانًا بـ”جهات خارجية”، يعكس في العمق اضطرابًا في الوعي السياسي للخصوم، ويُفصح عن مأزق حقيقي تعيشه بعض الفئات التي تُدرك أن هذا الفاعل السياسي ما زال يملك قدرة تأثير استثنائية، خاصة في الأوساط الشعبية.

فكلما زادت هذه الحملات في حدّتها، كلما استعاد الرجل بريقه الرمزي، ليس لأنه يقدّم حلولًا عميقة أو برامج دقيقة، بل لأنه يخاطب حسب اعتقادهم قلوبهم المقهورة بلغة وجدانية، دينية، أخلاقية، تنسجم مع البنية الثقافية والاجتماعية لغالبية المغاربة.
خطاب بنكيران شعبوي؟ نعم بل متخلف وماضوي. لكنه شعبوي ناجع، لأنه يستحضر الإيمان الشعبي، ويُوظّف الدين كرافعة تبريرية، ويقدّم نفسه كواحد من الناس، لا كمتعالي عليهم. في المقابل، تبدو خطابات خصومه، بمن فيهم الإعلاميون والسياسيون، بعيدة عن نبض الشارع، مفرغة من المشاعر، مُثقلة بالتقنية واللغة الجافة، ولا تملك ما يكفي من الحضور العاطفي أو الرمزي لإقناع المواطن. أما الهجوم عليه، فهو عند بنكيران “هبة من السماء”: يستثمره جيدًا، يُعيد إنتاج صورته من خلاله، ويُحوّل نفسه إلى الضحية، لا باعتباره فقط فاعلًا معارضًا، بل باعتباره شاهدًا على الانحراف، وصوتًا “صادقًا” في زمن التزييف.
المنظومة الإعلامية المناهضة له، برغم ضجيجها، تعاني من هشاشة في التأثير؛ إذ غالبًا ما تنزلق، تحت ضغط التوجيه السياسي، نحو خطاب تشهيري لا تحليلي، قائم على الإثارة لا العمق، وهو ما يفقدها تدريجيًا ثقة فئة عريضة من المواطنين. فبدل أن تسهم في نقاش عمومي ناضج، عززت حالة التماهي بين المستهدف والمواطن البسيط، الذي لم يعد يرى في الهجوم على بنكيران خلافًا سياسيًا مشروعًا، بل محاولة لإقصائه ك”رمز” سياسي مستقل ومزعج لمنظومة لا تُحبذ الأصوات الخارجة عن السرب.

من يرغب في استقراء مزاج المغاربة، عليه أن يبتعد عن الصالونات الفارهة ومكاتب التحليل، ويقترب من الأسواق الشعبية، ومن المقاهي، ومن حوارات الحلاقين وسهرات لاعبي “الكارطة والضّامة” ومن حوارات سائقي الطاكسيات والحافلات، ومن تعليقات الفيسبوك غير المؤطرة. فهناك، في تلك التفاصيل اليومية، وفي تلك التعبيرات التلقائية، تُصنع حقيقة الرأي العام، بعيدًا عن وهم التحكم.

فحزب العدالة والتنمية، وإن تراجع عدد المقاعد التي يحتلها، بعد نكسة 2021. لم يخسر ارتباطه العضوي بجزء من الناخبين المتشبثين بالمشاركة كواجب أخلاقي وهوياتي.

أما الفئات المتوسطة والمثقفة، فقد انسحب الكثير منها من العملية السياسية، إما بالمقاطعة أو بالتصويت العقابي ضد أحزابها أو حتى بورقة بيضاء، وهو ما يصب في مصلحة هذا الحزب، الذي ظل متمسكًا بدوره كمعارض شرس، ومخاطب فاعل للمجتمع، ولو بإمكانيات محدودة، ومقاعد نيابية قليلة، وزعيم يستمر في التعبئة، حتى من خلال خطابات مكتوبة على ورق الزبدة.
في المقابل، فشلت أحزاب الأغلبية – رغم وفرة الموارد والامتيازات – في تقديم خطاب سياسي بديل، نابع من الواقع، ومعبر عن حاجيات المواطن، أو على الأقل مطمئن بشأن أفق الإصلاح.

وهنا ستكمن المفارقة الكبرى عشية الانتخابات القادمة لا قدّر الله : لا الخطاب الرصين سيقنع الناس، ولا المال السياسي سينقذ أصحابه من فتور التفاعل الشعبي.

إن الرهان على استنزاف بنكيران وحزبه عبر التبخيس أو الشيطنة لم يعد مجديًا. بل إن هذا التكتيك أصبح يُنتج نتائج عكسية، لأن بنكيران، في عين المواطن البسيط، لم يعد مجرد زعيم حزبي، بل أصبح رمزًا للمواجهة، وصوتًا يعكس -بحدّته وسلاطته وبساطته- حالة الغضب المكتوم، وفقدان الثقة في السياسة، وغياب الأمل في المؤسسات.

أتمنى أن أكون مخطئًا في هذا التقدير، ولكن من يرغب في استقراء مزاج المغاربة، عليه أن يبتعد عن الصالونات الفارهة ومكاتب التحليل، ويقترب من الأسواق الشعبية، ومن المقاهي، ومن حوارات الحلاقين وسهرات لاعبي “الكارطة والضّامة” ومن حوارات سائقي الطاكسيات والحافلات، ومن تعليقات الفيسبوك غير المؤطرة. فهناك، في تلك التفاصيل اليومية، وفي تلك التعبيرات التلقائية، تُصنع حقيقة الرأي العام، بعيدًا عن وهم التحكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى