التصوف، ذلك الحصن المنيع من عوادي الزمن
ق در لسعي الإنسان في هذه الدنيا أن تتخلله محطات من السعادة والانشراح والآمال، وأخرى تطبعها فترات فراغ وخيبات أمل ومحن. هكذا هو قدر ابن آدم في مصارعة الأهوال من أجل النجاة ومعانقة بر الأمان.
وفي زمن الملمات والشدائد، كالتي تعيشها الإنسانية اليوم جراء أزمة صحية مهولة، تتأرجح استجابة العبد الضعيف لها بين التمرد والتشتت الذي يجر على صاحبه اكتئابا وقلقا وانعزالا ، وبين همة وحزم وتجرد يمتح قوته في مجابهة المحن من معين الصبر والامتثال للقدر والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وهو حال المتصوفة.
واعتبر يوسف كيسويت، أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الإنسان يبتغي وسيلته في أسماء الله الحسنى الجلالية والجمالية، موضحا أن سنة الله في الكون م داولة الأيام بين بسط وقبض وشدة ورخاء، حتى يتذوق العبد من صفات جمال خالقه وجلاله.
وبلغة التصوف، فإن المريد أو السالك يسمى “ابن الوقت” السائر في طريق “الفتوة” والإحسان الذي يقوده إلى المعرفة الربانية دون أن يتزحزح عن وعيه وإدراكه ببعده الزمني والمكاني، هنا والآن.
ويرى إيريك جوفروا، المختص في التصوف، بأن السالك لا يسعى للانعزال عن الدنيا، وأن قدره أن يتحقق في البعد الزماني والمكاني لعصره “بين الناس”. إذ على “ابن الوقت”، العبد، أن يتدرج في مسالك الإحسان حيثما جعله الله سبحانه وتعالى.
إن الوقت الحاضر، الذي ي عد كنزا لا يفنى بالنسبة للمريد، هو بحسب لغة “القوم” نقطة الاتصال الوحيدة مع “الحقيقة الخالدة”. لذلك فإن المريد يروم، في سعيه على طريق السلوك، بحسب أحد العارفين، توجيه الروح للعثور على ذلك الوقت الذي يشكل نقطة الاتصال الوحيدة مع الحقيقة الخالدة، بدل التحسر على ماض خلى لم يعد للعبد عليه سطوة أو الانجرار خلف أحلام مستقبل لا يأتي ولا يدري إن كان سيحدث فيه أمرا .
وفي خضم “وقت” انقضت عليه جائحة ت ذكي في النفوس حنينا لماض قريب، وتدفع للارتماء في أحضان أحلام بمستقبل م بهم، يستجير من يقصد “الثبات المعنوي” بالتوكل على الله سبحانه وتعالى، ويجد فيه ضالته، أي في لحظة يهب فيها قلبه لخالقه لأنه الرحمن الرحيم به.
إن هذا الخ ل ق، وهو دعامة السلوك والتحقق، وهو ما ذكره الشيخ جنيد البغدادي، في إحدى رسائله لصاحبه أبي بكر الكسائي، حين قال : “الرضا هو استقبال الأحكام بالصبر والفرح”، مضيفا “الرضا ثاني درجات المعرفة؛ فمن رضي صحت معرفته بالله، بدوام رضاه عنه”.
أما كيسويت، مؤلف كتاب “صوفية الأندلس .. ابن برجان والفكر الإسلامي في القرن الثاني عشر”، فيقول : “لولا الابتلاء ولولا التعرف على الأسماء الجلالية والجمالية لما أمكن بلوغ المعرفة المكنونة في الأسماء الحسنى”.
ويذكر أن القرآن الكريم يحيل، في مواضع عديدة، على هذه الحقيقة التي كان يرى فيها السلف الصالح فرصة لكبح جماح النفس وتقلبات الأحوال الدنيوية لبلوغ معنى التوحيد.
ويؤكد الأستاذ كيسويت، الذي ينتسب لكلية اللاهوت بجامعة شيكاغو، أن على المريد أن يتأدب أمام تجلي الجلال الإلهي إلى أن يبلغ درجات الهمة والمحبة الخالصة لوجه الله تعالى دون علة.
وصرح السيد عبد الكريم.أ، أحد مريدي طريقة صوفية في شمال المغرب، لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن “ملازمة ذكر الله والثبات على طريق الإحسان وصحبة الفقراء ت قو ي عزم السالك على إعمال التجرد في مواجهة الآفات والفتن كما هي حالنا اليوم أمام هذه الجائحة”.
ويؤكد هذا السالك أنه لا مندوحة للمريد الراغب في بلوغ هذا المقام العالي عن التخلق بالصدق، وإخلاص النية، والثبات والهمة.
وفي الأخير، يستشهد السيد عبد الكريم بأبيات للشيخ أحمد بن عجيبة الحسني، الذي ف ج ع بفقد بعض أبنائه بسبب وباء الطاعون الذي حل بالمغرب سنتي 1799 و1800، فنظم يقول :
وإن جنك ليل من القبض حالك فهيئ له صبرا فضوؤه تابع
سكون وتسليم لما قد جرى به قضاء محتم من الحق واقع