الشناقة والسياسة
الغلاء ليس أزمة ظرفية أو مجرد خلل طارئ في السوق، بل هو انعكاس لصراع غير متكافئ بين فئات تهيمن على الاقتصاد والمواطن البسيط

محمد الطالبي
يتبادل أطراف التحالف الحكومي بشكل علني ومباشر الاتهامات حول أزمة الغذاء بالمغرب، وتحديدًا الارتفاع المهول لأسعار المواد الغذائية، وإن كان ذلك بعناوين بارزة كتداول أسعار الأغنام بعد القرار الملكي بخصوص عيد الأضحى القادم، وكذلك أسعار السمك، وخاصة السردين، حيث يتبادلون كرات الاتهام فيما بينهم في نوع من العبث ودراما السياسة في بلدنا.
والحقيقة أن الغلاء وباء أصاب البلاد والعباد في كل المجالات، من السكن والصحة والتعليم إلى التغذية، مما يجعل المواطن المغربي يقضي حياته مهددًا بأداء الفواتير للبنوك التي تفعل فيه ما تشاء، لا ما يشاء، ويبقى أمامها بلا أدوات للمقاومة في ظل شروط الإذعان بمنطق الاستسلام.
الأزمة المركبة دفعت التحالف الحكومي للحديث بصوت خافت، ولكن بتوجيه ومضمون خطيرين، إذ تكاد تختصر أزمات البلد في وجود مضاربين أو “شناقة” هنا وهناك، هم من يلهبون الأسعار، دون الإتيان على ذكر أن هؤلاء المعنيين أو المشار إليهم هم “شناقة” أصلاً في المجال السياسي والحزبي والنقابي، ومحتكرون للريع وناهبون للصفقات التي تُفصل على المقاس.
بل إننا لا يجب أن ننسى الشاب صاحب سمك مراكش في قضية العسل، والتي كانت صورة واضحة لما يجري في الاقتصاد، حيث تمت محاولة توظيف مؤسسة دستورية بحجم البرلمان لخدمة وجهة نظر اقتصادية لبرلماني، على الأقل من الأغلبية، يحتكر جزءًا كبيرًا من العسل استيرادًا وتوزيعًا وتسعيرًا.
وهنا تكمن الخطورة، إذ إن اختراق “الشناقة” ولوبيات العقار والتعليم الخصوصي والصفقات لكل ما يُرى وما لا يُرى هو مأساة أيضًا.
واختراق المؤسسات المعوَّل عليها في حماية البلد واستقراره واقتصاده وروحه وشعبه، من برلمان ومستشارين وجماعات ترابية وكل البنيات الأخرى، هو مأساة مركبة ومعقدة. حتى الحكومة أصبحت تعيش تضارب المصالح، وربما لأول مرة نعيش مع حكومة تغلب عليها التوحش الاقتصادي باسم حرية السوق.
وهي المحسوبة بهتانًا على الشق السياسي وهن السياسة: تجار ومضاربون وأصحاب شركات ومصالح وفلاحون وحتى موظفون ومناولون مع بعضهم البعض، حتى أصبح منطق “الشركة القابضة” متحكمًا في دواليب السياسة وفي قتلها أيضًا.
إن المتتبع للمشهد المغربي يدرك أن الغلاء ليس أزمة ظرفية أو مجرد خلل طارئ في السوق، بل هو انعكاس لصراع غير متكافئ بين فئات تهيمن على الاقتصاد والمواطن البسيط الذي لم يعد يجد أمامه أي متنفس.
فالمشكلة ليست في الأسعار فحسب، بل في هيمنة لوبيات مالية وسياسية على كل مفاصل الحياة. إن الغياب التام لأي إجراءات حاسمة ضد الاحتكار والمضاربة، والتردد في فرض ضرائب تصاعدية على كبار الفاعلين الاقتصاديين، يثبت أن الأزمة ليست مجرد عجز اقتصادي، بل هي إفراز طبيعي لنظام سياسي واقتصادي مترابط، حيث لا يمكن المساس بجذور المشكلة دون المساس بالمصالح الكبرى التي تدير اللعبة من وراء الستار.
أما الأخطر في هذا الوضع، فهو فقدان الثقة في كل محاولات الإصلاح. فحينما يُترك المواطن في مواجهة مباشرة مع الغلاء دون حماية، وحينما يتحوّل البرلمان من مؤسسة رقابية إلى نادٍ للنخب الاقتصادية، وحينما تصبح الحكومة أداة لتدبير المصالح لا لحماية المواطنين، فإن النتيجة الطبيعية هي تآكل العقد الاجتماعي المغربي، ويصبح المواطن وحيدًا ومتخلى عنه، مما يفتح الباب أمام أشكال جديدة من الاحتجاج الشعبي، سواء الصامتة منها أو العلنية.
إن محاسبة الذين استولوا على الاقتصاد الوطني، حتى عبر تفليس أو إفلاس الشركات الوطنية الكبرى مثل “لاسامير”، وارتباط الأمر بميلاد أغنياء وسياسيين من رحم رائحة الوقود والغاز، سيكون ضمانة لحماية صناديق الاقتراع والسياسة عمومًا من عبث العابثين والمقامرين والانتهازيين والمصلحيين الذين كانوا عيبًا وتحولوا إلى عادة نتعايش معها.
ولنختم بالقول: إن أخطر أنواع المضاربات و”التشناقة” هي التي تطال مجال الأخلاق، أي السياسة…
للوطن رب يحميه